عندما هممت بوضع اسماء للاعمال الادبية لاختيار احداها لمناقشته والتحاور حوله تجاذبني اتجاهيان اولهما هل اضع اعمال ذات سيط عالي وانتشار واسع ؟ ام اضع اعمال ذات قيمة ادبية وابداعية عالية ؟ ولم استطع ان احسم الاختيار تماما فحاولت ان اوفق بينهما بوضع اعمال ذات قيمة ادبية وابداعية وفي نفس الوقت ذات شهرة معقولة في اوساط الشباب , ولكن الذي لم استطيع ان افعله هو ان ازيح تلك الرواية الرائعة عن الوجود في قائمة الاختيار رغم علمي ان الكثير لم يسمعوا بها ... واقصد رواية " عرس الزين " للاديب والروائي السوداني " الطيب صالح " ... وانا لم اضعها معاندة للقراء ... او محاولة لفرض رأيي علي الاستفتاء ... ولكني وضعتها محاولا ان الفت النظر لتلك الرواية الجميلة الحالمة التي ذكرتني احداثها الجميلة بمقطوعة " الراعي الوحيد " للعازف " زمفير" ... وحتي لا تظنوا اني ابالغ في اعجابي بتلك الرواية اقرأوا معي ما كتبه المفكر الكبير وعالم الاجتماع الاستاذ/ جلال امين في كتابه " كتب لها تاريخ " تحت عنوان " الطيب صالح .... عرس الزين " ... كتب يقول ... " من اجمل الكتب التي قرأتها " عرس الزين " للطيب صالح , وهي رواية قصيرة لايزيد حجمها عن مائة صفحة من الحجم الصغير , قراتها لاول مرة في اوائل السبعينات اي منذ نحو ربع قرن , ثم اعدت قراءتها منذ ايام لاتاكد من استحقاقها لهذا الحكم , فاحببتها في المرتين حبا شديدا , وكنت اول مرة قد اخذت اذكرها لكل من اقابله وكأني اكتشفت درة من الدرر , ورحت هذة المرة اتاكد من ان كل من اعرفهم , من المهتمين بالامر قد قرأوها , واتعجب من امر من لم يقرأها حتي الان .... "
والرواية .. " لمن لم يقرأها " تبدا مباشرة بإلقائك في اتون الاحداث ...حيث ينتشر خبر ارتباط " الزين " في القرية انتشار النار في الهشيم وتجد الجميع يتناقل جملة " الزين داير يعرس !!... " بكل دهشة واستغراب ..... مما يجعلك تتسأل في استعجاب ... من هو الزين ؟ ولماذا يعتبر " تعريسه " او زواجه خبرا مهما في القرية ؟ ... وبين سطور القصة لاتستطيع ان تمنع نفسك من الرغبة في اكتشاف هذا العالم البديع والتهام السطور التهاما حتي اخر سطر ..حيث ان الاحداث تجذبك والهدوء يغلفك والرغبة في الانتصار " للزين " تستولي عليك ...والرواية لن تخذلك .... فهي تنتصر للزين انتصارا جميلا سلسا ليس فيه بطولة مزعومة ولا انكسارا مقبضا ... ولكنه ذلك الانتصار والنجاح القريب للواقع الذي تراه في الحياة ...و انا هنا تتنازعني رغبتان فانا لا اريد ان احرق احداث القصة لمن لم يقرأها ... وكذلك اريد ان اعرضها عرضا وافيا .... حسنا ...استطيع ان ازعم ان الرواية - ورغم انتماء مؤلفها لمدرسة الواقعية - الا انها تعلمك ان الواقعية ليست هي السواد المفرط ولا التهويمات الغير مفهومة ... ولكن الواقعية هي ان تقترب كثيرا وجدا من البشر وتلتقط لحظاتهم التي يعيشونه بافراحها واحزانها وتقوم بعمل تكبير لها ليشاهده الجميع معك .... والرواية تناقش ايضا التضاد بين مفهوم التدين الشعبي المستقر في وجدان مجتمع عفوي مثل مجتمع الاشقاء في السودان ... والتدين الذي يبشر به المتعلمون ... والذي يمثله إمام المسجد في الرواية .... وهذا الامام ايضا يمثل لك شخصية محيرة في بناء الرواية ...فحديثه الذي يلقيه علي مسامع المصلين يوم الجمعة هو حديث صحيح من الناحية الدينية .. حيث انه يذكرهم بالاخرة وعذابها ونعيمها و اقتراب الموت وضرورة تأديتهم لفرووضهم الدينية .... ولكنه ايضا يثير - في نفوس اهل القرية - الكثير من الانقباض والاحساس بانه يكتسب رزقه بدون تعب او كد مثلهم ...حيث انه يكتسب اجره من تعليم ابنائهم .... وكذلك كان منفصلا عن احاديثهم وعن اهتمامهم ... انظر معي لذلك المقطع من الرواية وستفهم مدي انفصال امام المسجد عن اهل القرية ... " ... ويقول لك محجوب اذا سالته عن امام المسجد انه " انه راجل صعب , لاياخد ولا يدي " معني ذلك انه لم يكن يسايرهم او يخوض معهم في احاديثهم - لم يكن يعنيه , كما يعنيهم , اوان زراعة القمح وسبل ريه ووسماده وقطعه او حصاده . لم يكن يهمه هل موسم الذرة في حقل عبد الحفيظ نجح ام فسد , وهل البطيخ في حقل ود الريس كبر ام صغر ؟ كم سعر اردب الفول في السوق ؟ هل هبط سعر البصل ؟ لماذا تأخر لقاح النخل ؟ كانت تلك امور ينفر منها بطبعه ويحتقرها بسبب جهلة بها . ومن ناحية اخري , كان هو يهتم بامور لا يابه بها إلا القليلون في البلد. كان يتتبع الاخبار من الاذاعة والصحف ويحب ان يناقش هل ستقوم الحرب ام لا ؟ وهل الروس اقوي ام الامريكان ؟ ماذا قال نهرو وماذا قال تيتو ؟ وكان اهل البلد مشغولين بجزيئات الحياة لا تعنيهم عمومياتها . وهكذا نشأت الهوه بينه وبينهم " .... هل اقتنعت باهمية القضية التي يثيرها المولف وهي - من وجهة نظري - انفصال المتعلمون عن الواقع الذي يعيشه بقية اهل البلد ( لو كان قدر لك ان تنزل احدي قري مصر والحديث مع اهلها ... لعرفت تماما ما يعنيه الطيب صالح بهذا الكلام ... فاهل القري يهمهم جدا سعر " شيكارة الكيماوي " عن اخبار الازمة المالية العالمية الراهنة )
هناك نقطة اخري متعلقة بإمام المسجد ... وهي انك تجد قلبك منقبضا عندما تقرأ سطور الرواية التي تتحدث عنه ...حيث يخيل لك ان السطور تقطب جبينها عندما تتحدث عنه .... اما رجل الدين الاخر في الرواية وهو " الحنين " فتحس ان سطور الرواية تنبسط اساريرها وتكاد تسمع صوت زقزقة العصافير منها عندما تتحدث عنه .... والحنين رجل دين صالح يعتبره اهل البلد بمثابة ولي من اولياء الله الصالحين وهو يحب " الزين " حبا جما ولا ياكل في بيت الا بيت الزين ودائما يدعو له .... و "الحنين " ( ارجو ان تلاحظوا دلالات الاسماء في الرواية ... الزين ... الحنين ..... نعمة " التي سيتزوجها الزين " وهي دلالات حالمة وكأن اسم الشخص لمحة من القدر تحكم مبكرا علي تصرفاته في الحياة ) ... رجل يحمل الكثير من صفات رجل الدين المرتبطة في اذهان اهل القري ...فهو يقيم في القرية ستة اشهر بين صوم وصلاة ...ثم يضرب في الصحراء ستة اشهر اخري منقطعا للعبادة ... وهو رجل لطيف المعشر .... لايغضب من اهل القرية - علي عيوبهم ومعاصيهم - ..بل يدعو لهم ... بل هو الذي انقذ "سيف الدين " احد اكثر فساق اهل القرية من الموت علي يدي " الزين " عندما اراد " الزين" ان يخذ بثأره منه .... واصلح بينهما ودعا لسيف الدين وللحاضرين " ربنا يبارك فيكم , ربنا يجعل البركة فيكم "... واطلق نبوئته للزين " بكره تعرس بنت في البلد دي ... " وهنا تنقلب الامور رأسا علي عقب .... فيتوب " سيف الدين " عن معاصيه ويترك مجالس اللهو والخمر وينتظم في الصلاة .... وتهل البركة علي القرية ويعم الخير علي اهلها في ذلك العام ...حتي يجمع اهل القرية علي تسمية ذلك العام " عام الحنين "
الرواية تحمل حلا لقضية اخري اشتد فيها اللغط بين الادباء والكتاب وهي تدورحول سؤال محوري " باي لغة نكتب ؟ " وتجد ان الطيب صالح استخدم ابسط الحلول وايسرها ... فوصفه للاحداث رائع بلغة عربية فصحي محكمة ...اما حديث ابطاله فهو حديث باللهجة السودانية المغرقة في المحلية والتي - وإن لم تفهم بعض الفاظها ومفراداتها - الا ان لها وقعا محببا في الاذن والقلب .
الرواية مفعمة بقضايا اخري هامة .... منها - علي حسب فهمي - فكرة السلطة واهمية وجودها بين الناس ( ولا اعني بالسلطة الحكومة المركزية ولكن تلك المجموعة الموجودة بالقرية والتي تقوم علي مصالح اهل القرية ) وهذة السلطة تبدو في احداث القصة مكونة من سبع شخصيات هم : محجوب , عبد الحفيظ , الطاهر الرواسي , عبد الصمد , حمد ود الريس , احمد اسماعيل , سعيد ... اقرأ معي ما ذكرته الرواية عنهم " هؤلاء كانوا الرجال اصحاب النفوذ الفعلي في البلد ...... كانوا الرجال الذين تلقاهم في كل امر جليل يحل بالبلد . كل عرس هم القائمون عليه , كل مأتم هم الذين يرتبونه وينظمونه . يغسلون الميت فيما بينهم , ويتناوبون حمله الي المقبرة . هم الذين يحفرون التربة , ويجلبون الماء , وينزلون الميت في قبره , ويهيلون عليه التراب , ثم تجدهم بعد ذلك في ( الفراش ) يستقبلون المعزين , ويديرون عليهم فناجين القهوة المرة . اذا فاض النيل او انهمر السيل فهم الذين يحفرون المجاري , ويقيمون المتاريس , ويطوفون علي الحي ليلا وفي ايديهم المصابيح, يتفقدون احوال الناس ويحصرون التلف الذي احدثه الفيضان او السيل . اذا قيل ان امرأة او بنتا نظرت نظرة فاجرة الي احد , فهم الذين يكلمونها واحيانا يضربونها , لايعنيهم بنت من تكون . اذا علموا أن غريبا حام حول الحي حول المغيب فهم الذين يوقفونه عند حده . اذا جاء العمدة لجمع العوائد فهم الذين يتصدون له , ويقولون هذا كثير علي فلان , وهذا معقول وهذا غير معقول ...... والآن وقد قامت في البلد مدارس , ومستشفي , ومشروع زراعي , فهم المتعهدون , وهم المشرفون , وهم اللجنة المسؤولة عن كل شئ . " .... هل اعجبت بهم ؟ واعجبت بافعالهم مع اهل القرية ؟ .... اذن تحمل القنبلة القادمة واسمع بقية الوصف .. " .... كانوا ككل صاحب سلطان ونفوذ لايظهرون نزعاتهم الشخصية ( إلا في مجالسهم الخاصة امام متجر سعيد .... الإمام مثلا كانوا يعتبرونه شرا لابد منه ... لم يكونوا يصلون !! .. ولكن واحد منهم علي الاقل كان يحضر الصلاة مرة في الشهر , إما الظهر أو العشاء في الغالب , فالفجر لاطاقة لهم به , ويكون غرض الزيارة في الواقع شيئا غير الاستماع لعظة الامام , حينئذ يعطون الإمام مرتبه , ويتفقدون بناء المسجد .... " ... فعلا شيئا غريبا ... هل يريد الطيب صالح ان يعقد مقارنة في عقولنا بين سوءات وسيئات السلطة في روايته وبينها في الواقع ؟ .... وهل يريد ان يقول انه السلطة في اي مكان مادامت لم تحظ بمحاسبة فلابد لها ان تسلك مسلكا غير قويم ؟ ... ام انه يريد ان يقول ان السلطة مادامت تقوم بواجباتها الصحيحة تجاه اهل البلد ..فليس لهم ان يحاسبوها عن سلوكها الشخصي ؟ ... لا ادري ... ولكنها تساؤلات تقفز لعقلك بمجرد ان تطالع ذلك التناقض .
الرواية رغم ثرائها الواضح بعدة مقابلات بين الاشياء واضادها ... إلا انها ...تبدو كترنيمة جميلة للحياة .. تسحرك بعذوبتها ... وتنقلك إلي عالم بكر ... لم تلوثه المدنية بملوثاتها ... اقرأ معي ما كتبه الاستاذ / جلال امين في نهاية تعليقه علي الرواية ... " ... فالقصة بالإضافة إلي ماذكرته , يتوفر فيها هذا الشئ النادر , وهو التفاؤل . فالذي ينتصر في النهاية هو الزين . ينتصر علي كل اشخاص القرية المزيفين , اذ لا تقبل اجمل وأذكي فتاة في القرية بالزواج إلا منه , ومن ثم فالقصة تتررك القارئ مفعما بالأمل . وهذا هو , بعض ما دعا الدكتور علي الراعي إلي ان يختار ذلك العنوان الجميل لمقاله عن " عرس الزين " " زغرودة طويلة للحياة " " فعرس الزين " هي كذلك ....... "
لمحات سريعة : -
المؤلف : الأديب السوداني الطيب صالح .. ( تستطيع ان تطالع اعماله بمكتبة العرب علي الرابط الاتي) :
الرواية : عرس الزين ورابطها هو
وصلات مفيدة : كتب لها تاريخ للمفكر الكبير جلال امين وتستطيع تحميله من الرابط