كلما تحدث الكثيرون عن ارقام توزيع رواية " عمارة يعقوبيان " التي تجاوزت المليون نسخة , وعن نجاحها الذي دفع شركة انتاج عملاقة لاختيارها لتنفق عليها ميزانية ضخمة لتحويلها لفيلم سينمائي , ثم بعدها مباشرة تم تحويلها لمسلسل تلفزيوني عرض في شهر رمضان ... ولم يتبق سوي ان توضع في مناهج التعليم ليتم تدريسها لطلبة المدارس , كلما ذكر ذلك ... كلما ادركت أن سر النجاح يرتبط دائما بمدي الالتزام بالخلطة الامريكية الحريفة ... سواء في كوب المياه الغازية العملاق ... او في مطاعم الوجبات السريعة ... بل وحتي في الادب ( وهذا صار مؤخرا ).
تبدأ الرواية بداية صاخبة بوصف احدث العلاقات الجنسية للمهندس / زكي بك الدسوقي ... سليل الاسرة الوفدية العريقة الذي يقع مكتبه الهندسي في عمارة يعقوبيان , وتعرج الرواية بوصف تاريخ العمارة الواقعة في شارع سليمان باشا منذ انشائها علي يد صاحبها هاجوب يعقوبيان عميد الجالية الارمينية في عام 1934 , و كيف كانت تحفة معمارية عند انشائها ومسكنا لعلية القوم ... ثم تحولها سكنا لطبقة السادة الجدد بعد قيام ثورة يوليو , وكيف ان السكان الجدد قد غيروا في طبيعة العمارة وطبيعة الجو الراقي والارستقراطي لها , ...طبعا لايفوتك الغمز بمسئولية الثورة عن التحول الذي اصاب مصر ( ممثلة في العمارة ) بذهاب بهائها وجمالها وظهور طبقة سوقية جديدة ( حسب نظر المؤلف ) هي التي تحكم .
تقلب صفحات الرواية لتنقلك من النقيض للنقيض ... من " زكي بك الدسوقي " وطبيعة حياته المفعمة بالترف والدعة ... الي حياة " طه الشاذلي " ابن " بواب العمارة " وكيف انه استطاع ان يزاوج بين مساعدته لابيه ... وتفوقه ونبوغه في الدراسة ... ثم كيف انه اختزل كل رغبته في التخلص من ذل الحاجة واحساسه بالنقص في حلمه بأن يلتحق بكلية الشرطة ... ثم تعطيك الرواية لمحة عن مدي حبه وعشقه لجارته بثينة ...ذلك الحب الذي نما وترعرع منذ نعومة اظافرهما .
تستمر الرواية محاولة الاحتفاظ بنفس سخونة الطعام الدليفري الملفوف بورق " الفويل " وتعرج علي لمحات من حياة " ابسخرون " الساعي بمكتب " زكي بك " .. واخيه الترزي " ملاك " ... ومنها لوصف تاريخ تطور حانات وبارات وسط البلد ... وطبعا لا يوجد احسن من جو الحانات لتلقي الضوء علي " حاتم رشيد " الصحفي اللامع والشاذ جنسيا واخر علاقاته بالمجند الصعيدي " عبد ربه " ... وطبعا لابد من التعريف بمجتمع الشواذ وعاداتهم ومصطلحاتهم ... وتستبد الرغبة بالرواية في اضافة التوابل الحريفة للاحداث ... فتعود لقصة " بثينة " حبيبة " طه " وكيف ان الظروف المادية السيئة لاسرتها - بعد وفاة والدها - تدفعها للعمل ... ثم التردي بعد ذلك في علاقة اثمة مع صاحب المحل ... كل هذا من المقبلات ... لتدخل وبعنف علي الشخصية التي ستشدك للرواية ... ليس لثرائها الدرامي ولا لتصاعدها مع الاحداث ... ولكن لانها تدغدغ مشاعر القارئ نظرا لقربها الشديد لعالم الواقع .... واقصد شخصية " محمد عزام " رجل الاعمال الثري جدا والفاسد جدا ... والذي تستبد به رغبتان اولهما جنسية ... ويتغلب عليها بزواج شرعي مشروط ... والاخري سلطوية وهي الانضمام لمجلس الشعب ... وهنا تخطو الرواية خطوتين واسعتين بتقديم شخصية " كمال الفولي " السياسي العتيد و الفاسد ... اولي الخطوات بالابتعاد عن القالب القصص والاقتراب جدا من عالم الواقع ... ثاني الخطوات تجاه قلب ووجدان القارئ حيث ان الشخصية هي نسخة كربونية من سياسي فعلي يكن له اغلب المصريين " وقت صدور الرواية " كراهية شديدة .... وكما قلت سابقا ... ان الرواية كل حين واخر لابد ان تفاجئك بحدث او شخصية تمثل تلك النيران التي يصطنعها الطباخ المتميز بالمطاعم ليشد انتباه الرواد ... وليضفي مذاقه الخاص علي الطعام الذي يصنعه .
تستمر الرواية علي هذا المنوال تنتقل بك باسلوب القفلات ...بين شخصيات الرواية ...مع وصف مسهب للتفاصيل ...فمن علاقة " زكي بك الدسوقي " المتوترة مع اخته " دولت " التي تنتهي بطرده من الشقة ... الي علاقة المصلحة الوليدة بين " محمد عزام " و " كمال الفولي " ... الي احساس " طه الشاذلي " بالضياع في عالم الجامعة بعد التحاقه بكلية " الاقتصاد والعلوم السياسية " ... وتتسال وانت تقراء ...اين نقطة الالتقاء بين الشخصيات فها هو اكثر من ثلث الرواية قد انقضي في التعريف بشخصيات الرواية فأين ما يجمعهم ... ولكنك شيئا فشيئا تدرك اللعبة .... فلا يوجد اي رابط عضوي بين الشخصيات ... سوي ارتباطها الباهت بطريقة او بأخري بعمارة يعقوبيان ... واقصد بالرابط العضوي ذلك الشئ الذي تتفاعل حوله الاحداث لتصل للذروة .... ولكن لايوجد شئ من هذا القبيل في الرواية ... فقط مجموعة شخصيات ... يتم وصف كل منها بادق التفاصيل والمشهيات للقارئ فمن العلاقات الجنسية ومجتمع بشوات ما قبل الثورة ... الي مجتمع رجال الاعمال وفسادهم الا متناهي ... الي عالم الفساد السياسي .... ومنهما الي اللغة الصادمة لمجتمع الشواذ ... الي عالم المهمشين .... والمظلومين .... تنتقل بك الاحداث بين تلك العوالم بالتوازي .... وتتسأل هل الفن القصصي هو فن السرد فقط ؟
طبعا بقية الاحداث معروفة سواء من قراءة الرواية او مشاهدتها علي شاشة السينما .... ولكن ما يعنيني هنا ... انني اذ افكر في مدي النجاح الذي تحقق للرواية ...لا اجد سوي ما ذكرته عن سر الخلطة الحريفة لمطاعم الوجبات السريعة الامريكية المنشأ .... فالجميع صغار وكبار ... شباب وشابات .... مثقفين و غير مثقفين يحبون تناول الطعام بمطاعم الوجبات السريعة بين حين واخر .... كما ان الرواية تحتفظ بميزة اخري .... وهي انها تغازل الجميع ... تغازل طبقة الارستقراطيين .... بتذكيرهم ... بمجدهم قبل الثورة ... وكيف ان البلد كانت احسن حالا عندما كانوا هم الذين في صدر الصورة ... وكيف ان البلد تحولت الي " مسخ " علي ايدي الذين قاموا بالثورة عليهم .... كما انها تنفس عن الغضب المكبوت في صدور عامة الشعب وتنتقم لهم من احدي الشخصيات الكريهة ... اذ تظهره بالوجة الذي يحب ان يراه عامة القراء وهو المرتشي الفاسد , كما انها تدغدغ مشاعر البعض بالنهاية السعيدة نوعا ما بزواج " زكي بك " من " بثينة " , وكان سبقها مشهدا ذو مذاق حريف اخر يتمثل في اخذ " طه الشاذلي " بثأره من الضابط الذي هتك عرضه .
قلنا ان الرواية - حسب فهمي لها - تسرد التغيرات التي حدثت في مصر خلال 70 عاما من خلال عمارة يعقوبيان .... حسنا ...فهذا قالب قصصي معروف وشهير ... ولكن تطل عليك العديد من التساؤلات .... اذا اعتبرنا ان هذة هي مصر .... فاين الطبقة الوسطي ؟ ... ان العمارة قد جمعت بين الطبقتين الثرية ( سواء الغنية بالميراث او الغنية بالفساد ) والفقيرة المهمشة ... ولكن اين الكتلة الحرجة ...الطبقة الوسطي ... تلك الطبقة التي تمثل صمام الامان لاي مجتمع والتي يخرج منها المبدعون والعلماء والبيروقراطية الحاكمة ... هذة الطبقة مختفية تماما من الرواية .... لماذا ؟ هل لان اي شخصية منها ...تماثل الاكلات المصرية الصميمة التي تحتاج الي جهد بالغ في تحضيرها ... وبراعة شديدة في انضاجها .... كما انها لاتحتوي علي ذلك المذاق الحريف الذي تصر الرواية علي اضفائه علي شخصياتها ... سواء الثرية منها ... او المهمشة ؟
ما ينطبق علي التساؤل عن الطبقة الوسطي ... يتصل بسؤال اخر ... اين الشخصية الايجابية في تلك القصة ؟ هل مصر او العمارة ايهما - حسب تذوقك للامر - خلت من اي شخصية ايجابية ... اعرف ان العمل الروائي ليس منبرا للوعظ ... ولكنه ايضا ليس لوحة بالغة السواد تخلو من اي نقطة ضوء او نموذج ايجابي .... إن اي مجتمع لا يستطيع احد ان يزعم انه قد انقسم الي طائفتين فقط ...طائفة السادة الذين يسكنون العمارة.... والخدم الذي يقطنون سطوح العمارة ... إن هذا هو الاستقطاب الذي لا يستقيم لعمل روائي تكريسه وابرازه .... فالحياة ليست ابيضا واسود .... بل مختلف الالوان والاطياف .... ولكن تذكر ... ان منطق مطاعم الوجبات السريعة هو الحاكم ... فلا مجال لشخصية تخل و تهدم هذا المنطق القائم علي العديد من المقبلات والمشهيات مما لا يتسق مع شخصية ايجابية تكون موجودة وسط هذا الخضم من الشخصيات المنحرفة سواء المنحرفة بفعل التنشئة او بفعل ضغط الظروف.
ما الهدف من اي عمل روائي ؟ هل السرد و تزجية الوقت ؟ ام رصد الاماكن و تطورها عبر الزمن ؟ ام اختيار بعض النجوم والاحداث الملفتة بالصحف ونسج بعض الشخصيات ليقوم القاص بعرض رايه الشخصي في الاحداث علي لسان الابطال ؟ ...تبدو لي الرواية وكأن هذا هو ما ينطبق عليه ... فبعيدا عن حرفية رسم الشخصيات وتطعيمها بالخلطة الحريفة التي تجعلها محببة للقارئ ... تبدو الرواية وكانها مجموهة تحقيقات صحفية ... تم جمعها في كتاب .... وهو فن صحفي معروف ...ان تختار شخصية ...لتسرد من خلالها وقائع اقتصادية او اجتماعية .. هذا بالضبط ما ينطبق علي الرواية ... مجموعة اراء للروائي تم الباسها مجموعة من الثياب لتقول كل واحدة رايها في الظرف الراهن عند تاليف الرواية .
هل الرواية ... اي رواية ؟ مجرد تجسيد للواقع ؟ ام لابد من خيال الفنان ولمسته بها ؟ ان رواية " عمارة يعقوبيان " اقتربت بشدة من عالم الواقع ... ويمكن لاي شخص ..من العامة ان يعدد لك شخوص الرواية ... واسماء المقابلين لهم في عالم الواقع .... وهذة نقطة ضعف كبيرة بالرواية ... حتي وإن حققت لها انتشارا واسعا وشعبية كبيرة .... فهل يستطيع احد ان يجاوبني ... اين ذهبت جاذبية شخصية " كمال الفولي " بالرواية ... بعد ازاحته من المشهد السياسي الواقعي ... مما جعل الناس يتعاطفون معه كعادتنا في مجتمعنا المصري الطيب ؟
نقطتان اخيرتان ... تتعلقان بالبناء الدرامي للرواية اولاهما تتعلق بكيفية رسم الشخصيات بالرواية حيث أن معظم الشخصيات لا تبدو عليها معالم الصراع التي تراها باي عمل روائي اخر ... وهذا يرجع لما ذكرته مسبقا بانه لا يوجد تصاعد للاحداث .. وإنما فقط سرد لها .... كما ان كل شخصية مستسلمة لمصيرها الذي تستطيع ان تتنبأ به منذ بدايات الرواية ... " طه " فقد مستقبله ومحكوم عليه بالضياع منذ ان تم رفض قبوله بكليه الشرطة .... الصحفي الشاذ .. لابد وان تكون نهايته مأساوية بمقدار شناعة فعله ... اسال اي محقق يقول لك مقولة معروفة عن مجتمع الشواذ .... " شاذ اليوم ... قتيل او قاتل الغد " ... ورجل الاعمال الفاسد ... لابد ان تزدهر اعماله في مناخ فاسد ... حتي ما تم تقديمه علي اساس انه نهاية سعيدة " لبثينة " و " زكي بك " يمثل اعتي درجات الفشل واللامعقول .... والا ماذا تسمي زواج فتاه علي اعتاب العشرينات برجل يفوق والدها المتوفي سنا ... هل هذا ابلغ نجاح ...استطاعت ان تبثه الروواية بنا ؟ ..... شخصيات كلها تتحرك كما لو كانت تتحرك في مأساة اغريقية ... نحو مصيرها المحتوم ... لا يوجد امل ... لا يوجد صراع ... لا يوجد ما يجعلك تتفاعل معه .... ولكن منذ متي تهتم مطاعم الـ " junk foods " بالفائدة الغذائية للطعام المقدم ... يكفي الطعم الحريف المحبب ... لقطاعات عريضة من الاذواق .
ثاني المآخذ علي البناء الدرامي للاحداث تلك الثغرة الواضحة والغير مقبولة علي الصعيد الدرامي لأي عمل روائي ... واقصد به ان الرؤية مختلطة وغير واضحة للشخصيات التي يتم طرحها .... فالسرد لخلفيات جميع الشخصيات يجعلك متقبلا ومتسامحا مع ما يرتكبونه من اخطاء ... فالشاذ معذور لان والده وامه كانوا منشغلين عنه ...مما ادي لاقترانه في علاقة مع الخادم النوبي , والمتطرف الارهابي معذور لان الدولة خذلته عندما هدمت حلمه في الالتحاق بكلية الشرطة , ثم كان الخذلان الاخر بهجر حبيبته له ... ثم كانت الطامة الكبري بهتك عرضه اثناء اعتقاله , وسليل الاسرة الارستقراطية تتعاطف معه لان قيام الثورة اطاح باحلامه وبمستقبله المبشر , البنت التي تبيع شرفها معذورة لانها وجدت نفسها يتيمة وتحت ضغط الحاجة تنحرف , هلما جرا ...ما هذا الخلط.... إن كل الشخصيات كان من الممكن ان تسلك مسلكا اخر تنئو فيه بنفسها عن الوقوع في الحضيض الذي استسلمت له ..... إن التسامح فضيلة بشرية ... ولكن يجب ان يستعمل في محله ... والا صارت الدنيا غابة ... يرتكب كل شخص ما يحلو له من آثام ثم نجد له المبرر .
تبدأ الرواية بداية صاخبة بوصف احدث العلاقات الجنسية للمهندس / زكي بك الدسوقي ... سليل الاسرة الوفدية العريقة الذي يقع مكتبه الهندسي في عمارة يعقوبيان , وتعرج الرواية بوصف تاريخ العمارة الواقعة في شارع سليمان باشا منذ انشائها علي يد صاحبها هاجوب يعقوبيان عميد الجالية الارمينية في عام 1934 , و كيف كانت تحفة معمارية عند انشائها ومسكنا لعلية القوم ... ثم تحولها سكنا لطبقة السادة الجدد بعد قيام ثورة يوليو , وكيف ان السكان الجدد قد غيروا في طبيعة العمارة وطبيعة الجو الراقي والارستقراطي لها , ...طبعا لايفوتك الغمز بمسئولية الثورة عن التحول الذي اصاب مصر ( ممثلة في العمارة ) بذهاب بهائها وجمالها وظهور طبقة سوقية جديدة ( حسب نظر المؤلف ) هي التي تحكم .
تقلب صفحات الرواية لتنقلك من النقيض للنقيض ... من " زكي بك الدسوقي " وطبيعة حياته المفعمة بالترف والدعة ... الي حياة " طه الشاذلي " ابن " بواب العمارة " وكيف انه استطاع ان يزاوج بين مساعدته لابيه ... وتفوقه ونبوغه في الدراسة ... ثم كيف انه اختزل كل رغبته في التخلص من ذل الحاجة واحساسه بالنقص في حلمه بأن يلتحق بكلية الشرطة ... ثم تعطيك الرواية لمحة عن مدي حبه وعشقه لجارته بثينة ...ذلك الحب الذي نما وترعرع منذ نعومة اظافرهما .
تستمر الرواية محاولة الاحتفاظ بنفس سخونة الطعام الدليفري الملفوف بورق " الفويل " وتعرج علي لمحات من حياة " ابسخرون " الساعي بمكتب " زكي بك " .. واخيه الترزي " ملاك " ... ومنها لوصف تاريخ تطور حانات وبارات وسط البلد ... وطبعا لا يوجد احسن من جو الحانات لتلقي الضوء علي " حاتم رشيد " الصحفي اللامع والشاذ جنسيا واخر علاقاته بالمجند الصعيدي " عبد ربه " ... وطبعا لابد من التعريف بمجتمع الشواذ وعاداتهم ومصطلحاتهم ... وتستبد الرغبة بالرواية في اضافة التوابل الحريفة للاحداث ... فتعود لقصة " بثينة " حبيبة " طه " وكيف ان الظروف المادية السيئة لاسرتها - بعد وفاة والدها - تدفعها للعمل ... ثم التردي بعد ذلك في علاقة اثمة مع صاحب المحل ... كل هذا من المقبلات ... لتدخل وبعنف علي الشخصية التي ستشدك للرواية ... ليس لثرائها الدرامي ولا لتصاعدها مع الاحداث ... ولكن لانها تدغدغ مشاعر القارئ نظرا لقربها الشديد لعالم الواقع .... واقصد شخصية " محمد عزام " رجل الاعمال الثري جدا والفاسد جدا ... والذي تستبد به رغبتان اولهما جنسية ... ويتغلب عليها بزواج شرعي مشروط ... والاخري سلطوية وهي الانضمام لمجلس الشعب ... وهنا تخطو الرواية خطوتين واسعتين بتقديم شخصية " كمال الفولي " السياسي العتيد و الفاسد ... اولي الخطوات بالابتعاد عن القالب القصص والاقتراب جدا من عالم الواقع ... ثاني الخطوات تجاه قلب ووجدان القارئ حيث ان الشخصية هي نسخة كربونية من سياسي فعلي يكن له اغلب المصريين " وقت صدور الرواية " كراهية شديدة .... وكما قلت سابقا ... ان الرواية كل حين واخر لابد ان تفاجئك بحدث او شخصية تمثل تلك النيران التي يصطنعها الطباخ المتميز بالمطاعم ليشد انتباه الرواد ... وليضفي مذاقه الخاص علي الطعام الذي يصنعه .
تستمر الرواية علي هذا المنوال تنتقل بك باسلوب القفلات ...بين شخصيات الرواية ...مع وصف مسهب للتفاصيل ...فمن علاقة " زكي بك الدسوقي " المتوترة مع اخته " دولت " التي تنتهي بطرده من الشقة ... الي علاقة المصلحة الوليدة بين " محمد عزام " و " كمال الفولي " ... الي احساس " طه الشاذلي " بالضياع في عالم الجامعة بعد التحاقه بكلية " الاقتصاد والعلوم السياسية " ... وتتسال وانت تقراء ...اين نقطة الالتقاء بين الشخصيات فها هو اكثر من ثلث الرواية قد انقضي في التعريف بشخصيات الرواية فأين ما يجمعهم ... ولكنك شيئا فشيئا تدرك اللعبة .... فلا يوجد اي رابط عضوي بين الشخصيات ... سوي ارتباطها الباهت بطريقة او بأخري بعمارة يعقوبيان ... واقصد بالرابط العضوي ذلك الشئ الذي تتفاعل حوله الاحداث لتصل للذروة .... ولكن لايوجد شئ من هذا القبيل في الرواية ... فقط مجموعة شخصيات ... يتم وصف كل منها بادق التفاصيل والمشهيات للقارئ فمن العلاقات الجنسية ومجتمع بشوات ما قبل الثورة ... الي مجتمع رجال الاعمال وفسادهم الا متناهي ... الي عالم الفساد السياسي .... ومنهما الي اللغة الصادمة لمجتمع الشواذ ... الي عالم المهمشين .... والمظلومين .... تنتقل بك الاحداث بين تلك العوالم بالتوازي .... وتتسأل هل الفن القصصي هو فن السرد فقط ؟
طبعا بقية الاحداث معروفة سواء من قراءة الرواية او مشاهدتها علي شاشة السينما .... ولكن ما يعنيني هنا ... انني اذ افكر في مدي النجاح الذي تحقق للرواية ...لا اجد سوي ما ذكرته عن سر الخلطة الحريفة لمطاعم الوجبات السريعة الامريكية المنشأ .... فالجميع صغار وكبار ... شباب وشابات .... مثقفين و غير مثقفين يحبون تناول الطعام بمطاعم الوجبات السريعة بين حين واخر .... كما ان الرواية تحتفظ بميزة اخري .... وهي انها تغازل الجميع ... تغازل طبقة الارستقراطيين .... بتذكيرهم ... بمجدهم قبل الثورة ... وكيف ان البلد كانت احسن حالا عندما كانوا هم الذين في صدر الصورة ... وكيف ان البلد تحولت الي " مسخ " علي ايدي الذين قاموا بالثورة عليهم .... كما انها تنفس عن الغضب المكبوت في صدور عامة الشعب وتنتقم لهم من احدي الشخصيات الكريهة ... اذ تظهره بالوجة الذي يحب ان يراه عامة القراء وهو المرتشي الفاسد , كما انها تدغدغ مشاعر البعض بالنهاية السعيدة نوعا ما بزواج " زكي بك " من " بثينة " , وكان سبقها مشهدا ذو مذاق حريف اخر يتمثل في اخذ " طه الشاذلي " بثأره من الضابط الذي هتك عرضه .
قلنا ان الرواية - حسب فهمي لها - تسرد التغيرات التي حدثت في مصر خلال 70 عاما من خلال عمارة يعقوبيان .... حسنا ...فهذا قالب قصصي معروف وشهير ... ولكن تطل عليك العديد من التساؤلات .... اذا اعتبرنا ان هذة هي مصر .... فاين الطبقة الوسطي ؟ ... ان العمارة قد جمعت بين الطبقتين الثرية ( سواء الغنية بالميراث او الغنية بالفساد ) والفقيرة المهمشة ... ولكن اين الكتلة الحرجة ...الطبقة الوسطي ... تلك الطبقة التي تمثل صمام الامان لاي مجتمع والتي يخرج منها المبدعون والعلماء والبيروقراطية الحاكمة ... هذة الطبقة مختفية تماما من الرواية .... لماذا ؟ هل لان اي شخصية منها ...تماثل الاكلات المصرية الصميمة التي تحتاج الي جهد بالغ في تحضيرها ... وبراعة شديدة في انضاجها .... كما انها لاتحتوي علي ذلك المذاق الحريف الذي تصر الرواية علي اضفائه علي شخصياتها ... سواء الثرية منها ... او المهمشة ؟
ما ينطبق علي التساؤل عن الطبقة الوسطي ... يتصل بسؤال اخر ... اين الشخصية الايجابية في تلك القصة ؟ هل مصر او العمارة ايهما - حسب تذوقك للامر - خلت من اي شخصية ايجابية ... اعرف ان العمل الروائي ليس منبرا للوعظ ... ولكنه ايضا ليس لوحة بالغة السواد تخلو من اي نقطة ضوء او نموذج ايجابي .... إن اي مجتمع لا يستطيع احد ان يزعم انه قد انقسم الي طائفتين فقط ...طائفة السادة الذين يسكنون العمارة.... والخدم الذي يقطنون سطوح العمارة ... إن هذا هو الاستقطاب الذي لا يستقيم لعمل روائي تكريسه وابرازه .... فالحياة ليست ابيضا واسود .... بل مختلف الالوان والاطياف .... ولكن تذكر ... ان منطق مطاعم الوجبات السريعة هو الحاكم ... فلا مجال لشخصية تخل و تهدم هذا المنطق القائم علي العديد من المقبلات والمشهيات مما لا يتسق مع شخصية ايجابية تكون موجودة وسط هذا الخضم من الشخصيات المنحرفة سواء المنحرفة بفعل التنشئة او بفعل ضغط الظروف.
ما الهدف من اي عمل روائي ؟ هل السرد و تزجية الوقت ؟ ام رصد الاماكن و تطورها عبر الزمن ؟ ام اختيار بعض النجوم والاحداث الملفتة بالصحف ونسج بعض الشخصيات ليقوم القاص بعرض رايه الشخصي في الاحداث علي لسان الابطال ؟ ...تبدو لي الرواية وكأن هذا هو ما ينطبق عليه ... فبعيدا عن حرفية رسم الشخصيات وتطعيمها بالخلطة الحريفة التي تجعلها محببة للقارئ ... تبدو الرواية وكانها مجموهة تحقيقات صحفية ... تم جمعها في كتاب .... وهو فن صحفي معروف ...ان تختار شخصية ...لتسرد من خلالها وقائع اقتصادية او اجتماعية .. هذا بالضبط ما ينطبق علي الرواية ... مجموعة اراء للروائي تم الباسها مجموعة من الثياب لتقول كل واحدة رايها في الظرف الراهن عند تاليف الرواية .
هل الرواية ... اي رواية ؟ مجرد تجسيد للواقع ؟ ام لابد من خيال الفنان ولمسته بها ؟ ان رواية " عمارة يعقوبيان " اقتربت بشدة من عالم الواقع ... ويمكن لاي شخص ..من العامة ان يعدد لك شخوص الرواية ... واسماء المقابلين لهم في عالم الواقع .... وهذة نقطة ضعف كبيرة بالرواية ... حتي وإن حققت لها انتشارا واسعا وشعبية كبيرة .... فهل يستطيع احد ان يجاوبني ... اين ذهبت جاذبية شخصية " كمال الفولي " بالرواية ... بعد ازاحته من المشهد السياسي الواقعي ... مما جعل الناس يتعاطفون معه كعادتنا في مجتمعنا المصري الطيب ؟
نقطتان اخيرتان ... تتعلقان بالبناء الدرامي للرواية اولاهما تتعلق بكيفية رسم الشخصيات بالرواية حيث أن معظم الشخصيات لا تبدو عليها معالم الصراع التي تراها باي عمل روائي اخر ... وهذا يرجع لما ذكرته مسبقا بانه لا يوجد تصاعد للاحداث .. وإنما فقط سرد لها .... كما ان كل شخصية مستسلمة لمصيرها الذي تستطيع ان تتنبأ به منذ بدايات الرواية ... " طه " فقد مستقبله ومحكوم عليه بالضياع منذ ان تم رفض قبوله بكليه الشرطة .... الصحفي الشاذ .. لابد وان تكون نهايته مأساوية بمقدار شناعة فعله ... اسال اي محقق يقول لك مقولة معروفة عن مجتمع الشواذ .... " شاذ اليوم ... قتيل او قاتل الغد " ... ورجل الاعمال الفاسد ... لابد ان تزدهر اعماله في مناخ فاسد ... حتي ما تم تقديمه علي اساس انه نهاية سعيدة " لبثينة " و " زكي بك " يمثل اعتي درجات الفشل واللامعقول .... والا ماذا تسمي زواج فتاه علي اعتاب العشرينات برجل يفوق والدها المتوفي سنا ... هل هذا ابلغ نجاح ...استطاعت ان تبثه الروواية بنا ؟ ..... شخصيات كلها تتحرك كما لو كانت تتحرك في مأساة اغريقية ... نحو مصيرها المحتوم ... لا يوجد امل ... لا يوجد صراع ... لا يوجد ما يجعلك تتفاعل معه .... ولكن منذ متي تهتم مطاعم الـ " junk foods " بالفائدة الغذائية للطعام المقدم ... يكفي الطعم الحريف المحبب ... لقطاعات عريضة من الاذواق .
ثاني المآخذ علي البناء الدرامي للاحداث تلك الثغرة الواضحة والغير مقبولة علي الصعيد الدرامي لأي عمل روائي ... واقصد به ان الرؤية مختلطة وغير واضحة للشخصيات التي يتم طرحها .... فالسرد لخلفيات جميع الشخصيات يجعلك متقبلا ومتسامحا مع ما يرتكبونه من اخطاء ... فالشاذ معذور لان والده وامه كانوا منشغلين عنه ...مما ادي لاقترانه في علاقة مع الخادم النوبي , والمتطرف الارهابي معذور لان الدولة خذلته عندما هدمت حلمه في الالتحاق بكلية الشرطة , ثم كان الخذلان الاخر بهجر حبيبته له ... ثم كانت الطامة الكبري بهتك عرضه اثناء اعتقاله , وسليل الاسرة الارستقراطية تتعاطف معه لان قيام الثورة اطاح باحلامه وبمستقبله المبشر , البنت التي تبيع شرفها معذورة لانها وجدت نفسها يتيمة وتحت ضغط الحاجة تنحرف , هلما جرا ...ما هذا الخلط.... إن كل الشخصيات كان من الممكن ان تسلك مسلكا اخر تنئو فيه بنفسها عن الوقوع في الحضيض الذي استسلمت له ..... إن التسامح فضيلة بشرية ... ولكن يجب ان يستعمل في محله ... والا صارت الدنيا غابة ... يرتكب كل شخص ما يحلو له من آثام ثم نجد له المبرر .